فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما معجزة ابن مريم وأمه فقد حكتها السورة المباركة، والحق أن كلام عيسى في المهد برهان ساطع على براءة أمه من بهتان اليهود {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا}. غير أن ولادة عيسى على هذا النحو كانت السبب في وجود عقيدة أخرى، فقد قال بعض الناس: صحيح أنه ليس له أب من البشر، وإنما أبوه هو الله نفسه سبحانه وتعالى وأنه- مثل أبيه رب ثان!. ويوجد إله ثالث يكمل سلسلة الآلهة هو الروح القدس الذي نفخ في مريم. وهذه هي الأسرة المقدسة!!. ولما كان هذا الكلام لم يعهد في دين سبق، ولم يجر على لسان أحد المرسلين، فقد سمى العهد الجديد!. والإنسان يتساءل: هل الأب والابن والروح كلمات مترادفة لذات واحدة؟ كما يقول العرب: أسد، وضيغم، وغضنفر، لحقيقة واحدة؟ كلا، إن لكل منهم ذاتا خاصة. ومع ذلك فالكل واحد!. يقول آخرون: بل ذات وصفتان! لكن الصفة لا تتجسد وتصلب ثم تصعد لتدين العباد والأب ينظر! هل هم ثلاثة أثلاث يكونون واحدا صحيحا! كلا، كل الفروض يأباها العقل. والصحيح أن الله واحد، وأن عيسى عبده ورسوله كسائر العباد المرسلين، وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة في عشرات السور: {وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين}. إن الخلاف ظل وسوف يظل محتدما إلى أن يجمعنا الله يوم المشهد العظيم، عندئذ يعلم الرؤساء والأتباع أن الله واحد، وأنه ليس له أولاد،: لا بنون ولا بنات، وأن ماعداه من مخلوقاته عبد له، وأنه هو الذي يدين العباد يوم الدين. وإذا كان البعض الآن ينظر ولا يرى، ويسمع ولا يعى، فإن الحواس هناك ستسمع الهمس والعيون هناك سترى الذر {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا}. بعد الكلام عن عيسى بن مريم، وكيف دعا الناس إلى توحيد الله، جاءت قصة إبراهيم- عليه السلام- الذي اشتبك مع الوثنية في حرب طويلة، وبارزها في مواطن عدة.
وإنك لتجد في الحوار الذي دار بين إبراهيم وأبيه المشرك طبيعة الدعوة الإسلامية، وطبيعة الأحزاب التي تناوئها. فإبراهيم يناشد أباه أربع مرات أن يدع الأصنام، ويسلم لله وجهه، في أسلوب يسيل وداعة وأدبا، وآخر مناشداته: {يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا} فيكون الرد الجافى القاسى {أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا}. تهدد ابنه بالرجم إن بقى على العقيدة الصحيحة، وطرده بعيدا عنه.. وقد اعتزل إبراهيم أباه وقومه فآنس الله وحشته، وجعل النبوة في ذريته! {فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا}.. وذكرت السورة بعد ذلك عددا من الأنبياء وما أفاء الله عليهم من نعماء، والأنبياء خلاصة البشرية العارفة بالله، والمعرفة به، وسيرتهم نموذج يحتذى.. ولاشك أن الذين خالطوهم واستفادوا منهم تأثروا بهم نفسيا وعقليا، فكانوا أرقى من غيرهم وأطهر، ولذلك يقول محمد إمام الأنبياء: «خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم». أما الخلوف التي تجىء من بعد ذلك، فقد ابتعدت عن الضوء وخبطت في ظلام.! {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا}. إن الصلاة معراج يصل العباد بربهم، ويغسل أرواحهم من الآثام، ويكسبهم حصانة ضدها، فمن انقطع عن الله، واستهوته الشياطين، ورتع في الرذائل فقد هلك. وينضم إلى هذا العوج في السلوك عوج في الفقه والحديث عن الله، ولذلك قال الله في سورة أخرى: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا}. أي: يتبعون الدنايا، وينتظرون المغفرة، وتلك خصائص التدين الفاسد، ومصير أصحاب البوار {إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا}. وإذا كانت الخلوف من أتباع الأنبياء قد زاغت ولم تنتفع بما لديها من وحى فإن هناك أمثالهم من الملاحدة الذين يزحمون القارات، لا يعرفون ربا، ولا ينتظرون آخرة، وما ارتفعت أبصارهم إلى السماء يوما..
يتحدث القرآن الكريم عن هذا النوع: {ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا}. إن الكافرين من الأولين والاخرين، والهمل الذين عاشوا بلها لايدرون شيئا، هؤلاء كلهم يجثون أمام الخالق فينفذ فيهم حكمه: {ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا}، فلن يخلد في النار إلا ظلوم كفار... والخطاب في الآية متجه إلى منكرى البعث، إذ لا يصح إلا هذا، فإن المؤمنين الصالحين لن يردوا النار أبدا وهى كما وصف الله تعالى: {وبئس الورد المورود}. ومن المؤمنين الأكابر من لا يحاسب على شىء. لأنه سبق سبقا بعيدا. والمؤمنون عامة يظفرون بالنجاة، ويأمنون يوم الفزع: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا}. وذكرت سورة مريم بعض المواقف لمشركى مكة حين عرضت عليهم دعوة الإسلام، وهى مواقف تكشف عن غباء وادعاء!. ماذا تقول لامرئ تناقشه بالحجة فيقول لك: كيف تعارضنى وثوبى أجمل من ثوبك؟ أو وقصرى أعلى من دارك؟ {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا}. وكان الجواب الإلهى {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا} (منظرا). إن هذا الكلام إفلاس في المناظرة... ومثله قول مشرك مماطل عليه دين لمؤمن ضعيف: القنى في الآخرة أقض لك دينك، سأكون هناك ذا مال وولد!! {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا}.
إنه كصاحب الجنتين في سورة الكهف، يكفر بلقاء الله ثم يقول: إذا كان هناك لقاء فسأكون أحسن حالا وأكثر مالا!! {كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا} متجردا عريان لا يملك شيئا.. وفي القرآن النازل بمكة حملة هائلة على عقيدة أن لله ولدا، ذكرا كان أو أنثى، وهذه الحملة تجرف المشركين من عبدة الأصنام، كما تضم إليهم كل من زعم أن لله جزءا من عباده، أو أن له ابنا من مخلوقاته.. الذي يجب أن يعرفه الكل أن ما عدا الله من إنس وجن وملك عبد له لايملك لنفسه نفعا ولاضرا أمامه، فكيف يجدى على غيره؟. واسمع إلى الآيات تقصف كالرعد {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا}. والله سبحانه يبغض من أشرك به، ولا يغفر له جريمته، ويقبل الموحدين ويقبل عليهم بالود والرحمة، وما جعل إنسان التوحيد قاعدته ثم انطلق في دروب الحياة مرتبطا به إلا أحبه الله، وجعل أهل السماء والأرض يحبونه {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} وفي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله سبحانه إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال: إنى أحب فلانا فأحبه. فيحبه جبريل، ثم ينادى في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول! في الأرض»!!. قال أحد الصالحين: ما أقبل عبد على الله بقلبه إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم {فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا}. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة مريم:
أقول: ظهر لي في وجه مناسبتها لما قبلها: أن سورة الكهف اشتملت على عدة أعاجيب: قصة أصحاب الكهف، وطول لبثهم هذه المدة الطويلة بلا أكل ولا شرب، وقصة موسى مع الخضر، وما فيها من الخارقات، وقصة ذي القرنين وهذه السورة فيها أعجوبتان قصة ولادة يحيى بن زكريا، وقصة ولادة عيسى، فناسب تتاليهما وأيضًا فقد قيل: إن أصحاب الكهف يبعثون قبل قيام الساعة، ويحجون مع عيسى ابن مريم حين ينزل، ففي ذكر سورة مريم بعد سورة أصحاب الكهف مع ذلك- إن ثبت- ما لا يخفى من المناسبة وقد قيل أيضًا: إنهم من قوم عيسى، وإن قصتهم كانت في الفترة، فناسب توالى قصتهم وقصة نبيهم. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 6):

قوله تعالى: {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانت هذه السورة تالية للسورة الواصفة للكتاب- الذي به نعمة الإبقاء الأول- بالاستقامة البالغة، افتتحها بالأحرف المقطعة، كما افتتح السورة التي تلي أم الكتاب، الداعيةَ إلى الصراط المستقيم، الواصفةَ الكتابَ بالهدى الضامن للاستقامة، والتي تلي واصفته، والتي تلي الأنعام المشيرة إلى نعمة الإيجاد الأول، فقال: {كهيعص} وهي خمسة أحرف على عددها مع تلك السور، وهي جامعة النعم، وواصفة الكتاب، وذات النعمة الأولى، وذات النعمة الثانية، كما افتتحت الأعراف التالية لذات النعمة الأولى بأربعة على عددها مع قبلها من الأم الجامعة والواصفة وذات النعمة الأولى، وكما افتتحت آل عمران التالية للواصفة بثلاثة على عددها مع الأم والواصفة {ذكر} أي هذا الذي أتلوه عليكم ذكر {رحمت ربك} أي المحسن إليك بالتأييد بكشف الغوامض وإظهار الخبء {عبده} منصوب برحمة، لأنها مصدر بني على التاء، لا أنها دالة على الوحدة {زكريا} أي ابن ماثان، جزاء له على توحيده وعمله الصالح الذي حمله عليه الرجاء للقاء ربه، والرحمة منه سبحانه المعونة والإجابة والإيصال إلى المراد ونحو ذلك من ثمرات الرحمة المتصف بها العباد {إذ نادى} ظرف الرحمة {ربه}.
ولما قدم تشريفه بالذكر والرحمة والاختصاص بالإضافة إليه فدل ذلك على كمال القرب، قال: {نداء خفيًا} أي كما يفعل المحب القريب مع حبيبه المقبل عليه في قصد خطاب السر الجامع بين شرف المناجاة ولذاذة الانفراد بالخلوة، فأطلع سبحانه عليه لأنه يعلم السر وأخفى، فكأنه قيل: كما ذلك الندا؟ فقيل: {قال رب} بحذف الأداة للدلالة على غاية القرب {إني وهن} أي ضعف جدًا {العظم مني} أي هذا الجنس الذي هو أقوى ما في بدني، وهو أصل بنائه، فكيف بغيره! ولو جمع لأوهم أنه وهن مجموع عظامه لا جميعها {واشتعل الرأس} أي شعره مني {شيبًا ولم أكن} فيما مضى قط مع صغر السن {بدعائك} أي بدعائي إياك {رب شقيًا} فأجرِني في هذه المرة أيضًا على عوائد فضلك، فإن المحسن يربي أول إحسانه بآخره وإن كان ما ادعوا به في غاية البعد في العادة، لكنك فعلت مع أبي إبراهيم عليه السلام مثله، فهو دعاء شكر واستعطاف؛ ثم عطف على {إني وهن} قوله: {وإني خفت الموالي} أي فعل الأقارب أن يسيئوا الخلافة {من وراءي} أي في بعض الزمان الذي بعد موتي {وكانت امرأتي عاقرًا} لا تلد أصلًا- بما دل عليه فعل الكون {فهب لي} أي فتسبب- عن شيخوختي وضعفي وتعويدك لي بالإجابة، وخوفي من سوء خلافة أقاربي، ويأسي عن الولد عادة بعقم امرأتي، وبلوغي من الكبر حدًا لاحراك بي معه- إني أقول لك يا قادرًا على كل شيء: هب لي {من لدنك} أي من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندك، لم تجرها على مناهج العادات والأسباب المطردات، لا من جهة سبب أعرفه، فإن أسباب ذلك عندي معدومة.
وقد تقدم في آل عمران لذلك مزيد بيان {وليًا} أي من صلبي بدلالة {ذرية} في السورة الأخرى {يرثني} في جميع ما أنا فيه من العلم والنبوة والعمل {ويرث} زيادة على ذلك {من ءال يعقوب} جدنا مما خصصتهم به من المنح، وفضلتهم به من النعم، من محاسن الأخلاق ومعالي الشيم، وخص اسم يعقوب اقتداء به نفسه إذ قال ليوسف عليهما الصلاة والسلام {ويتم نعمته عليك وعلى ءال يعقوب} [يوسف: 6] ولأن إسرائيل صار علمًا على الأسباط كلهم، وكانت قد غلبت عليهم الأحداث؛ وقد استشكل القاضي العضد في (الفوائد الغياثية) كونَ {يرث} على قراءة الرفع صفة بأنه يلزم عليه عدم إجابة دعائه عليه الصلاة والسلام لأن يحيى عليه السلام قتل في حياته، ولا يكون وارثًا إلا إذا تخلف بعده، وقد قال تعالى: {فاستجبنا له ووهبنا له يحيى} [الأنبياء: 90] قال: فتجعل استئنافية، ولا يلزم حينئذ إلا خلف ظنه عليه السلام- هكذا نقل لي عنه، وأنا أجلّه عن ذلك، لأنه لا يلزم تخلف دعائه ولا يتجرأ على عليّ مقامه بإخلاف ظنه، لأن الإخبار عن قتله قبله إن كان عن النبي- صلى الله عليه وسلم- وصح السند، كان تسمية العلم الذي أخذه عنه في حياته إرثًا مجازًا مرسلًا باعتبار ما يؤول إليه في الجملة، لاسيما مع جواز أن يكون يحيى عليه السلام علَّمه لمن عاش بعد أبيه عليهما الصلاة والسلام، وذلك لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- سمى العلم إرثًا على وجه الاستعارة التبعية بقوله عليه الصلاة والسلام «العلماء ورثة الأنبياء» ولا شك أن من ضرورة تعلم العلم حياة المأخوذ عنه، ولم يرد منع من تسميته إرثًا حال الأخذ، هذا إذا صح أن يحيى عليه السلام مات قبل زكريا عليه السلام، وحينئذ يؤول {من وراءي} بما غاب عنه، أي عجزت عن تتبع أفعال الموالي بنفسي في حال الكبر، وخفت سوء فعلهم إذا خرجوا من عندي وغابوا عني، فهب لي ولدًا يكون متصفًا بصفاتي، فكان ما سأله، وإن لم يصح موته قبله بالطريق المذكور لم يصح أصلًا، وينتفي الاعتراض رأسًا، فإن التواريخ القديمة إنما هي عن اليهود فهي لا شيء، مع أن البغوي نقل في أول تفسير سورة بني إسرائيل ما يقتضي موت زكريا قبل يحيى عليهما الصلاة والسلام، فإنه قال: آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكانوا من بيت آل داود عليه السلام فمات زكريا عليه السلام، وقيل: قتل، فلما رفع الله عيسى عليه الصلاة والسلام من بين أظهرهم وقتلوا يحيى ابتعث الله عليهم ملكًا من ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأسًا من رؤوس جنوده يدعى بيوزردان صاحب الفيل فقال: إني كنت قد حلفت بإلهي: لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري إلا أن لا أجد أحدًا أقتله، فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، وأن بيوزردان دخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دمًا يغلي فقال: يا بني إسرائيل! ما شأن هذا الدم يغلي؟ قالوا: هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا، فقال: ما صدقتموني، قالوا: لو كان تأول زماننا لتقبل منا، ولكن قد انقطع منا الملك والوحي فلذلك لم يقبل منا، فذبح منهم بيوزردان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلًا من رؤوسهم فلم يهدأ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحهم على الدم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فلما رأى بيوزردان أن الدم لا يهدأ قال لهم: يا بني إسرائيل! ويلكم! أصدقوني واصبروا على أمر ربكم، فقد طال ما ملكتم الأرض تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار أنثى ولا ذكر إلا قتلته، فلما رأوا الجد وشدة القتل صدقوا الخبر فقالوا: إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله عز وجل، فلو أطعناه فيها لكان أرشد منا، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه، فقال لهم بيوزردان: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكريا، قال: الآن صدقتموني، بمثل هذا ينتقم منكم ربكم، فلما رأى بيوزردان أنهم صدقوه خر ساجدًا وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوش، وخلا في بني إسرائيل، ثم قال: يا يحيى بن زكريا! قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم فاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقي من قومك أحدًا، فهدأ الدم بإذن الله تعالى، ورفع بيوزردان عنهم القتل وقال: آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل وأيقنت أنه لا رب غيره، وقال لبني إسرائيل: إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لست أستطيع أن أعصيه، قالوا له: افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقًا وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم، فذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من بني إسرائيل، فلما بلغ الدم عسكره أرسل بيوزردان أن ارفع عنهم القتل، ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد.
فهذا كما ترى ظاهر في أن يحيى تخلف بعد أبيه عليهما الصلاة والسلام وكذا ما تقدم في آل عمران عن الإنجيل في قصة ولادته.
ولما ختم دعاءه بقوله: {واجعله رب} أي أيها المحسن إلي {رضيًا} أي بعين الرضا منك دائمًا حتى يلقاك على ذلك. اهـ.